سوق الأحد «مهدّدة» بالتحوّل إلى حديقة عامة

البلديــة أثبتــت ملكيتهــا للأرض والمستثمــرون ينتظــرون الاستئنــاف.

ربحت بلدية سن الفيل قبل شهر دعوى الاستفادة من الأرض

التي تقام عليها سوق الأحد الأسبوعية من دون أن تنهي خلافاً

امتد أكثر من عشرين عاماً على ملكية الأرض بين البلدية ووزارة الطاقة والمياه، إذ عمد مستثمرو الأرض إلى الاستئناف، وهو ما

يطرح السؤال عن مصير «سوق الفقراء»

الساعة لم تتعدّ التاسعة صباحاً، لكن رائحة الفلافل تفوح بقوة بالقرب من المطعم الخاص بالسوق. يدخل توفيق السيد، وهو مصري الجنسية، مع ابنه ويطلب أربع سندويشات فلافل ويعلق ضاحكاً: «ما كنتش أعرف ان الفلافل طيبة الصبح لحد ما جيت هنا» فيُضحك تعليقه معظم الموجودين.

غير بعيد عن المطعم يصدح صوت وائل كفوري ممزوجاً بصوت «المعلم» حسن. الأخير هو أشهر بائع اسطوانات وألبومات غنائية في السوق: «جديد وائل كفوري بألفين ليرة» يهتف. يجذب صوته عليا ممدوح فتتوقف لتسأل عن الشريط الغنائي وتردف معلقة: «لا أحمل إلا الف ليرة»، يحن قلب المعلم فيقدمه لها مجاناً مع ابتسامة تظهر الفراغات الكبيرة بين أسنانه الصفراء. بضاعة المعلم حسن غير قانونية، ولا مشكلة لديه في الموضوع: «كل الاسطوانات الموجودة في السوق اللبنانية غير قانونية، أساساً لا أحد من اللبنانيين يشتري اسطوانة «اشينال»». ويقصد بـ«اشينال» كلمة «اوريجينال» أي الأصلية وغير المنسوخة. ويكشف أنه تعرّض للتوقيف والتفتيش من جانب الدولة: «مرتين ولكن الآن خفّت الرقابة ولذلك عدت إلى عملي».

تتكرّر هذه الأحاديث في كلّ ركن من السوق التي تسلي كلّ من يتجوّل فيها وهم كثر. الازدحام في المكان يعطي انطباعاً أولياً عن الحركة الكثيفة التي يشهدها، علماً بأنه لا شيء يجمع مرتاديه إلا الوضع الاقتصادي والاجتماعي والبحث عن ضروريات الحياة بعيداً عن الغلاء المتصاعد الذي يغزو الاسواق اللبنانية.

«أرخص حذاء خارج السوق سعره عشرون ألف ليرة لبنانية، أما هنا فأستطيع أن أشتري حذاء بخمسة آلاف ليرة، حتى ولو كان مستعملاً. المهم ألا يكون ممزقاً» يقول شوقي صفا باقتناع تام بـ«أهمية سوق الأحد في حياته». يكمل البحث في «جبل» الأحذية عن «الفردة» اليمين من الحذاء الذي أعجبه. يتنفس الصعداء حين يجدها. يدفع خمسة آلاف ليرة ويغادر مع حذاء جديد إلى منزله.

أما اللافت في السوق فهو فساتين الأعراس. حيث بإمكان أي عروس اختيار الفستان الذي تريده، وإذا لم يعجبها أي من الفساتين المعلقة ففي إمكانها اختيار قماش أبيض من الاقمشة التي تتدلى من التعاليق، وسوف تخيط لها صاحبة الفساتين الفستان الذي تريده.

الملكية للبلدية؟

رغم هذه الحركة، و«فسحة» الحياة التي تقدّمها سوق الفقراء، مثلما يسميها روّادها، فإنها تعاني مشكلة امتدت أكثر من عشرين عاماً هي عمر السوق: ملكية الأرض. فبلدية سن الفيل تراها حقاً غير قابل للنقاش أو التفاوض بموجب صك ملكية، فيما تؤكد وزارة الطاقة والمياه حقها فيها لأنها تقع على مجرى نهر بيروت.

هذا الخلاف وصل إلى المحاكم التي فصلت قبل شهر في ملكية الأرض لمصلحة البلدية.

ويبدو رئيس البلدية نبيل كحالة مرتاحاً وهو يشرح حق البلدية في الأرض: «لدينا وثائق تثبت ملكيتنا للأرض. غير أن المنطق وحده كفيل بأن يؤكد ذلك». يأخذ استراحة ليردّ على هاتفه الذي لا يهدأ فـ«هذا يريد رخصة وذاك يريد وثيقة» يقول، يتنهّد بعمق، ثم يعود إلى الموضوع الأكثر إثارة للجدل في منطقة سن الفيل: «موضوع سوق الاحد، موضوع قديم. يعود إلى عهد الوزير الراحل ايلي حبيقة الذي أعطى رخصة لشخصين هما انطوان شديد وريمون عيراني لاستثمار الأرض، إلا أن هذه الورقة غير قانونية».

ويعود الى الملفات الموجودة امامه ليكمل دفاعه: «الوزير حبيقة اعتبر الأرض ملكاً للدولة ولوزارة الموارد المائية والكهربائية بما أنها تقع على نهر بيروت، إلا أن الأمر غير صحيح إذ إن صك الملكية معنا»، وهو يؤكّد أن «الارض ملك لبلديتنا». تقاطعه السكرتيرة لتطلب من «الريّس» التوقيع على ملف عاجل. ينقطع تسلسل أفكاره إلا أن مجرد ذكر كلمة سوق الاحد يعيد النشاط إليه: «الصك الذي بحوزتنا عليه إشارة في الوقت الحالي، إلا أن هذه الاشارة لا تلغي الملكية لكنها توقف أي عمل على هذه الأرض حتى إشعار آخر».

عند بدء الحديث عن انطوان شديد وريمون عيراني يبدو الغضب والانزعاج واضحاً على وجهه. «لقد سطوا على أرضنا من أجل أن يعطوا سوقهم صورة شرعية، وقاما بتنظيمه على شكل تعاونية، إلا أن هذه الألاعيب لا تمر علينا. لقد لجأنا إلى المحاكم ورفعنا دعوى عليهم وربحناها لكنهم استأنفوا، إنهم يتنفسون آخر أنفاسهم ولن يصلوا إلى أي مكان».

يتردد قبل ان يكمل حديثه: «في الماضي كانوا محميين من المخابرات السورية واليوم الله يعلم بمين شادين ضهرن؟».

أما التطرق إلى الأضرار التي تُلحقها السوق بمنطقة سن الفيل فيجرّ الى سلسلة لا تنتهي من المشاكل: «أولاً البضاعة الموجودة بالداخل معظمها مسروق ولا مصدر واضحاً لها ولا أوراق بيع وشراء ووصولات. ثم إن السوق تسبب زحمة سير خانقة، إضافة الى التلوّث الكبير الذي تسببه لنهر بيروت، اذ إن معظم النفايات يتم رميها في مجرى النهر».

أما اكثر ما يزعج «الريّس» فهو عمليات السرقة او التشليح التي يقوم بها بعض «الأغراب» الذين يأتون الى سوق الأحد. وقبل الانتهاء من التعداد يطرح سؤالاً يبدو منطقياً إلى حدّ كبير: «هل يوجد حمامات في السوق؟ الارجح لا... إذاً في الإمكان تخيّل النتيجة».

كلّ هذه المساوئ التي يعددها كحالة للسوق حلّها موجود في مشروع يحلم به: «إقامة حدائق لأهل البلدة... مساحة 9500 متر مربع ليست صغيرة وفي الإمكان استثمارها لتحسين الوضع العام لسن الفيل».

«لن نساوم»

في آخر السوق تستقبلك لافتة كتب عليها «نرحب باستقبال شكاوى واقتراحات الزبائن» وتحت اللافتة كتب «مكتب انطوان شديد».

الدرج الحديدي الذي يوصل الى مكتب شديد يبدو قديماً وخطراً إلى حد كبير. وعند نهايته يقع مكتب مدير السوق الذي يغصّ بالاشخاص. فالساعة العاشرة هي الوقت المعتاد لاجتماع المدير مع الباعة في السوق. اجتماع سينتهي بسرعة قياسية.

يجلس شديد في مكتبه ويبدأ حديثه بثقة كبيرة: «وزارة الموارد المائية والكهربائية هي المالك الشرعي للارض، فهذه الاخيرة تقع على نهر بيروت، إذاً الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التفكير». يرتشف قهوته ويردف: «بلدية سن الفيل حصلت على صك بملكية الارض بطريقة غير شرعية، وأكبر دليل على ذلك هي ان كل وزراء الطاقة الذين تعاقبوا منذ عهد الوزير حبيقة اعترفوا بحق الدولة بالأرض وأقرّوا بأن البلدية لا علاقة لها بالارض».

يقوم من مقعده ويفتح «جاروره» ليخرج مئات الوثائق والمستندات التي تؤكد أقواله. يبحث عن أوراق محددة ويشهرها بوجهنا: «هذه هي الأساس وكل شيء آخر باطل، اذا قرأتم ما كتب هنا فستغادرون لبنان». يسحب ورقة اخرى: «واذا قرأتم هذه تغادرون الشرق الاوسط». يضحك بصوت مرتفع مستمتعاً بنكاته المتتالية.

وأخيراً يخرج إفادة عقارية موقعة من مدير الشؤون العقارية مؤكدة بكتاب صادر عن وزارة الطاقة والمياه رقمه 154/ص/ 2006 يقضي بتصحيح وضع مساحات من الأملاك العمومية النهرية مسجلة ملكاً خاصاً (أي لبلدية سن الفيل) خلافاً للأصول القانونية. يبتسم شديد ابتسامة المنتصر حين يقرأ علينا مضمون الافادة: «سأعطيكم نسخة منها لتتأكدوا بأنفسكم».

وبالفعل فإن المستندات كلها تؤكد ملك الدولة للأرض وعدم شرعية وقانونية الصك الذي بحوزة البلدية. من الوزير حبيقة إلى الوزير طرابلسي فالوزير فنيش. مئات الوثائق المرتبة والموثقة حسب تاريخها ومحتواها.

يبتسم شديد حين يسمع اتهامات بلدية سن الفيل له وللسوق: «كل هالحكي والله عيب، يقولون اننا نلوث نهر بيروت. ليأت من يريد وير مجرى النهر، انه نظيف من جهتنا، حتى اننا نحن نقوم بتنظيفه بواسطة شركة خاصة ندفع لها من اموالنا». ويفنّد الاتهامات الموجهة اليه ويكمل حديثه: «ألا يخجلون من أن يتهموا الباعة بأنهم غير لبنانيين؟ كل أصحاب «البسطات» هنا لبنانيون، أنا أؤجرهم وأعرفهم أكثر من رئيس بلدية سن الفيل الذي لم تطأ رجله يوماً أرض السوق». وحين نسأله عن الباعة السوريين المنتشرين بكثرة في السوق يأتي الجواب: «بإمكان اللبناني أن يوظف سورياً أو سريلنكياً أو صومالياً فهو بالنتيجة موظف».

وهكذا، بين حجج المتخاصمين المقنعة كلّ وفق وجهة نظره، تبقى الأرض معلّقة بين «سوق للفقراء» وحلم إنشاء «الحديقة العامة»... والفصل في هذه القضية حكم ينتظر الاستئناف.

-------------

حضارات من العالم

تشبه سوق الأحد معظم الأسواق الشعبية، إلا أن ميزتها الكبيرة هي تعدد جنسيات الباعة وبالتالي نوع البضائع.

«انا هندي بحب لبنان» يبدو أن رجا حفظ العبارة الأخيرة ليستقطب بها اكبر عدد من الزبائن. تمتلئ «بسطة» رجا الهندي عطوراً وأعشاباً طبية من الهند. «انا بجيب هول من اينديا للمدام بلبنان». تصل سونيتا السريلنكية الى بسطة رجا وتطلب منه اسم عطر غريب، يلبي طلبها بسرعة ويفتخر قائلاً: «انا بعرف بكل شي».

في المقلب الآخر من السوق يقف دونغو السنغالي. يرتدي جلباباً طويلاً مرقطاً بصور أشجار، وصندلاً مفتوحاً لونه أبيض إضافة الى عقد من الصدف يتوسط عنقه. دونغو يبيع تحفاً وتماثيل أفريقية. يشرح عن بضائعه بفرنسية ممزوجة بعربية أبعد ما تكون عن اللهجة اللبنانية. بضائعه من الاغلى في السوق حسب شرحه، الا أنها تستحق لأنها نادرة و«هاند مايد». يتوقف عن الكلام ليخدم سيدة لبنانية بدا عليها الترف: «أنا لا آتي الى هنا ابداً، ولكن ناطور المبنى الذي أسكن فيه أخبرني عن التماثيل الافريقية الموجودة هنا، فجئت لأبحث عنها». تختار السيدة سبعة تماثيل، تدفع ثمنها ما يقارب خمسمئة ألف ليرة لبنانية، تتابط ذراع خادمتها وتغادر.

أفريقيا، شرق آسيا، سوريا، وحتى روسيا... كلها موجودة في سوق الأحد عل شكل بضائع يتهافت عليها اللبناني بغوة، فمنذ القدم حتى اليوم لم تتغير القاعدة في هذا البلد: كل شي فرنجي برنجي.

تعليقات: